السيمفونية الثالثة : سيمفونية عاشق

(( أنظرُ من شرفة الروح
لمدن الليل المضمخة بغيابها السرمدي…
لم تنحن لضجيج هلع الدهر …
تبتسم كل مساء كامرأة ساطعة ))  عبدالله البلوشي.

(( I look from the balcony of my soul
At the night towns in its
Enternal absence
That did not surrender from the noisy fear of time
That smiles every evening
Like a bright and shinning woman ))   Abdullah Al. Bulushi .

بهذه الكلمات التي تجمع بين المدن الحالمة وعالم المرأة في لحظات الصمود والانكسار أستهل سيمفونيتي الثالثة سيمفونية عاشق لأقول: إن إنجاز الفنان لقطعة فنية ليس بالأمر الصعب، ولكن أن تكون هذه القطعة ضمن مجموعة هائلة من القطع المعروضة وسط حشد كبير من المشاركين، فضلاً عن جذبها انتباه المشاهدين، فهذه هي المعادلة الصعبة التي تستحق الوقوف عندها.
– ملتقى مسقط للنحاتين العرب.
إن حديقة القرم الطبيعية تقع ضمن الأماكن المفضلة لديَّ لممارسة رياضة المشي، وتواجدي بالمكان على نحو شبه يومي أتاح لي فرصة المتابعة عن قرب لكل مراحل التجهيز المختلفة التي سبقت ملتقى مسقط للنحاتين العرب (6 إلى 20 يناير، 2001م)، حيث رأيت أنامل الفنانين من مختلف البقاع العربية- عُمان، البحرين، السعودية، سوريا، العراق، مصر… وغيرها من الدول- تعزف أنغاماً موسيقية عبر منحوتات ومجسمات في فراغ مدروس، لتخرج لنا أشكالاً من المنحونات تشكل سيمفونيات من الكتلة والفراغ والإيقاع.
وملتقى مسقط للنحاتين العرب الذي أقيم بحديقة القرم الطبيعية، تحت رعاية بلدية مسقط وبالتعاون مع الجمعية العُمانية للفنون التشكيلية، يعكس ضمن ما يعكس قدرة الفنان على مزج تفاعلات الجهود البشرية مع معطيات الطبيعة عبر المراحل المختلفة لتطور المجتمعات، كما أن تشجيع الهيئات الرسمية (الحكومة) لعرض هذه الرؤية والخروج بها من الحيز المكاني المنغلق (صالات العرض)، إلى الساحات العامة المفتوحة (حديقة القرم)، يعد من وجهة نظري انطلاقة بالحركة الفنية من المحدود إلى اللامحدود، وهو ما يتسق تماماً مع الانطلاقة السريعة للنهضة العُمانية الحديثة. فضلاً عن أن الخروج بالفن من المحدود إلى اللامحدود يحقق الانتشار لرؤية الفنان بكل ما فيها من استلهام لعناصر الطبيعةK وقدرة على نحت عمل فني يتفاعل مع هذه العناصر، كما يوسع الخروج ذاته مساحة التواصل بين الجمهور والأعمال الفنية.
و(( سيمفونية عاشق )) اسم لعمل إبداعي نحتي من حجر (الكلس) بارتفاع ثلاثة أمتار وعرض ستين سنتيمتراً للفنان العُماني (محمد الناصري)، يقع هذا الإبداع ضمن الأعمال النحتية المعروضة في حديقة القرم الطبيعية.
والفنان محمد الناصري، فنان ذو بصمة فنية مميزة، وله مشاركات عديدة في معارض داخلية على مستوى السلطنة، وأخرى خارجية على مستوى كل من: هولندا، تونس، الشارقة، البحرين… فضلاً عن مشاركاته في ورش العمل المختلفة، ومبادرته في تدريب الفنانين المبتدئين في مراسم الشباب، كما أن له نشاطات عديدة على مستوى الأعمال التصميمية لاسيما تصميم الديكورات المختلفة للمسرحيات داخل السلطنة.
وحديقة القرم الطبيعية ليست المكان الوحيد الذي يقتني عملاً من أعمال هذا الفنان، إذ إن منظمة (اليونسيف) الأمم المتحدة لرعاية الطفولة بالأردن تقتني ثلاثة أعمال لهذا الفنان هي: فرحة طفل- لجوء- الشهيد محمد الدُرّة.
والأمر الذي لا شك فيه أن كل عمل فني (نحتي) عرض – ولا زال – في الحديقة من خلال الملتقى له بصمته المعبرة والخاصة به. إلا أن لكل منا إحساساً خاصاً يجذبه إزاء أشياء معينة دون أخرى على نحو مميز. فما بالنا والأمر يتعلق بعمل فني؟.
مرة أخرى إحساس الجاذبية تجاه الفن – الذي تطرقت بالحديث عنه في السيمفونية الثانية الأسبوع الماضي – ينفجر بداخلي إزاء سيمفونية عاشق. وقبل الدخول في الحديث عن ماهية المفردات التي جذبتني تجاه هذه السيمفونية، أود أن ألفت الانتباه إلى أن انجذابي لسيمفونية عاشق، كان انجذاباً يغلفه الغموض التام للمصدر. الأمر الذي يثبت أن الانجذاب الصادق نحو الفن شعور يتسم بالموضوعية ويسمو فوق كل أحاسيس الانتماء.
سيمفونية عاشق عمل فني من حجر حوله الفنان محمد الناصري من كتلة صماء إلى قطعة شعورية مفعمة بالأحاسيس، تحاورك بنجوى صادرة من أعماق النفس الإنسانية، إذا استطاع صاحبها من خلال التناغم الموجي في التشكيل والتلاحم الشديد بين الأجزاء أن يعبر عن المحاولات العسيرة للنفس الإنسانية – لاسيما المرأة – في إيجاد ذاتها والتمسك بهذه الذات خاصة في لحظات التحقق التي قد يهددها الانكسار والشرخ المفاجئين، أو الوقوع تحت مظلة الهزيمة المفجعة، وهو ما عبر عنه محمد الناصري بالنتوءات الحادة والعميقة وسط مساحات ناعمة، وبالكسر المفاجئ والخشن أعلى عمله الفني.
سيمفونية عاشق: رغم بروز (الأنا) فيها إلا أن الفنان محمد الناصري استطاع أن يحول هذه (الأنا) من تجربة تعبر عن الذات الداخلية إلى تجربة في الوجود الخارجي، ذلك بتحويلها (أي الأنا) إلى آخر يحاورك حوار الذات يشاركك الفرحة، ويشاطرك مرارة الحزن، ويتلاحم معك في الوحدة، ويتقوقع معك حين تفجع في لحظات الانكسار أو الألم أو الهزيمة.
والأنا ذاتها تدعوك في تناغم فتان إلى التوحد بها على هيئة (مادونية) لا تقبل الانقسام، لتصبح هذه الأنا التي هي في نفس الوقت أنت حال رؤيتك لها، وهي أيضاً الآخر (هو أو هي)، ذاتاً واحدة تتعانق في رومانسية شاملة تعبر عن قمة التحدي الإنساني في لحظات الصمود، والرغبة العارمة للنفس الإنسانية نحو الانطلاقة والتحرر لإجتياز الزمان والعوائق والقيود من أجل التحقق.
ومن هنا كان استهلالي لهذه السيمفونية بكلمات الشاعر العُماني (عبدالله البلوشي) لما وجدت فيها من علاقة بين المدن والمرأة تتمثل هذه العلاقة في حلم التحقق، وهي علاقة نجدها في ألف ليلة وليلة حين تتشبث شهرزاد بسرمدية الزمان من أجل تحقيق الحياة والنجاة من الموت.
سيمفونية عاشق وُفق الفنان محمد الناصري من حيث دلالات الانتشار واللاخصوصية، وهو ما عبر عنها بالعمل النحتي برمته وبإطلاقة كلمة (( سيمفونية )) عليه، كما حقق في ذات العمل دلالات الفردية والخصوصية بالتفصيلات الجزئية المعبرة التي أجملها في كلمة (( عاشق )). فكم من حوار تحاورتُه مع هذه السيمفونية؟ وفي كل مرة ينم الحوار عن مضمون جديد، ورغم التنوع الحواري بيننا إلا أن ثمة هاجساً يأتيني من الأعماق مفصحاً: أن تيمة المرأة هي التي تهيمن على مخيلة هذا الفنان، وتثير الاهتمام الأكبر من التساؤلات في فكره.
لم يمض وقت طويل وإذ بذات النداء الذي يجذبني إلى مكاني المفضل (( الجمعية العُمانية للفنون التشكيلية ))، يشدني على نحو لا إرادي –خلال شهر سبتمبر الحالي- ودون موعد مسبق لأكتشف أن هاجسي كان يقيناً، فالمعـرض الشخصـي الـذي أقيم بالجمعيـة لهذا الفنان تحت عنوان (( غموض )) يكشف عن تجربة فنان مغامر بأفق مفتوحة لعالم المرأة إلا أنها (أي التجربة) لا تخلو من شبح التساؤل الأبدي حين يتساءل الرجل عن موقعه داخل عالم المرأة هل هو هامشي؟ من ثم يبدو الرجل متطفلاً فيه؟ وهل المرأة هي الأكثر تفانياً في الحب أم السيطرة؟ ولماذا؟ وحين تمضي المرأة عمقاً في تحقيق ذاتها، لماذا تطرح على وجهها – أحياناً – شعوراً دفيناً يفصح عن تعبيرات الخوف والوحدة والشعور بالذنب؟.
تلك التساؤلات الفلسفية يطرحها الفنان محمد الناصري من خلال معرضه الشخصي الذي يسبر فيه أعماق المرأة بالكشف عن جوانبها المختلفة: الشكلية والنفسية والفكرية عبر مختلف الأوضاع الاجتماعية. ومن ثم يطرح محمد الناصري المرأة في حالات التعالي والرفض والتوسل والانهيار والمقاومة والتحرر والاسترخاء والتناغم والحب والتوحد والخيانة… إلخ.من خلال أعمال نحتية قاصداً أن تكون مفردة التكوين فيها (الطين) لما بينها وبين المرأة من توحد دلالي عبر الميثولوجيات القديمة والأديان السماوية إذ كلاهما ينمان عن ثنائية الحياة والموت.
هكذا يطرح محمد الناصري عالم المرأة بكل ما فيه من مجهولية وغموض يجذبان الرجل بخيط سحري يجمع بين الرغبة والرهبة.

About Asyah Al Bualy

Born in Zanzibar on 1962, An Omani citizen. PhD. in criticism with Honours from Cairo University in May 2000. The posts that she has held have been Assistant Professor at Sultan Qaboos University, from August 2000 until June 2006. Since June 2006, she has been working at the Research Council, as Adviser for culture and humanities upon a Royal Order by His Majesty Sultan Qaboos bin Said. The content on this space is written by Dr. Asyah, it is licensed under the Creative Commons Attribution-NonCommercial-ShareAlike 3.0 Unported License.
This entry was posted in Uncategorized. Bookmark the permalink.

Leave a comment